فصل: الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعُونَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.الحديث الثَّالِث وَالْأَرْبَعُونَ:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مسح فِي وضوئِهِ بناصيته وَعَلَى عمَامَته».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح.
رَوَاهُ مُسلم من رِوَايَة الْمُغيرَة بن شُعْبَة رَضي اللهُ عَنهُ وَقد تقدَّم فِي الحَدِيث السَّادِس من هَذَا الْبَاب بِلَفْظِهِ. قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَفِي الْمسْح عَلَى الْعِمَامَة، عَن عَمْرو بن أُميَّة وسلمان وثوبان وَأبي أُمَامَة، وبلال رَضي اللهُ عَنهم وَوَقع فِي كَلَام ابْن حزم أنَّ هَذَا الْفِعْل كَانَ فِي مَرَّات مُخْتَلفَة، لَا أنَّه مسح عَلَى الناصية والعمامة مَعًا؛ بل مسح عَلَى الْعِمَامَة مرّة وَعَلَى الناصية مرّة أُخْرَى.

.الحديث الرَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مسح فِي وضوئِهِ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ظاهرهما وباطنهما، وَأدْخل أصبعيه فِي صماخي أُذُنَيْهِ».
هَذَا الحَدِيث حسن، مَرْوِيّ من طرق.
أَحدهَا: عَن الْمِقْدَام بن معدي كرب- رَضي اللهُ عَنهُ- قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ، فَلَمَّا بلغ مسح رَأسه وضع كفيه عَلَى مقدم رَأسه فأمَرَّهُما حَتَّى بلغ الْقَفَا، ثمَّ ردهما إِلَى الْمَكَان الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، وَمسح بأذنيه ظاهرهما وباطنهما، وَأدْخل أَصَابِعه فِي صماخ أُذُنَيْهِ».
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مَحْمُود بن خَالِد، وَيَعْقُوب بن كَعْب الْأَنْطَاكِي قَالَا: ثَنَا الْوَلِيد بن مُسلم عَن حَريز- بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي فِي آخِره- بن عُثْمَان، عَن عبد الرَّحْمَن بن ميسرَة، عَن الْمِقْدَام بِهِ.
وَلابْن مَاجَه من هَذَا الحَدِيث «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مسح بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ، ظاهرهما وباطنهما» رَوَاهُ عَن هِشَام بن عمار، نَا الْوَلِيد بن مُسلم، نَا حريز بالسند الَّذِي قبله.
وَهَذَا حَدِيث سكت عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد وَعبد الحقّ فَيكون محتجًا بِهِ عِنْدهمَا، إِمَّا صَحِيحا أَو حسنا عِنْد أبي دَاوُد، وإمَّا صَحِيحا عِنْد عبد الحقّ.
وَاعْترض ابْن الْقطَّان عَلَى عبد الْحق حَيْثُ سكت عَلَى هَذَا الحَدِيث بِوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن عبد الرَّحْمَن بن ميسرَة الرَّاوِي عَن الْمِقْدَام مَجْهُول الْحَال لَا يعرف رَوَى عَنهُ إِلَّا حريز بن عُثْمَان، وَإِلَى ذَلِكَ؛ فَإِن حريز بن عُثْمَان كَانَ لَهُ- فِيمَا زَعَمُوا- رَأْي سوء فِي الصَّحَابَة.
الثَّانِي: أَن فِيهِ الْوَلِيد بن مُسلم، وَكَانَ يُدَلس وَيُسَوِّي، وَلم يقل فِي هَذَا الحَدِيث «أَنا» وَلَا «ثَنَا» وَلَا «سَمِعت» وَلَا ذكر عَن حريز أنَّه قَالَ ذَلِكَ، فَمن حَيْثُ هُوَ مُدَلّس يُمكن أَن يكون قد أسقط بَينه وَبَين حريز وَاسِطَة، وَمن حَيْثُ هُوَ مسوٍّ يُمكن أَن يكون قد اسقط بَين حريز وَبَين عبد الرَّحْمَن بن ميسرَة وَاسِطَة، وَلَقَد زعم الدَّارَقُطْنِيّ أنَّه كَانَ يفعل هَذَا فِي أَحَادِيث الْأَوْزَاعِيّ، يعمد إِلَى أَحَادِيث رَوَاهَا الْأَوْزَاعِيّ، عَن أَشْيَاخ لَهُ ضعفاء، عَن أشيخ لَهُ ثِقَات، فَيسْقط الضُّعَفَاء من الْوسط ويرويها عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن أشياخه الثِّقَات كَأَنَّهُ سَمعهَا مِنْهُم.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي الإِمام: وَيُمكن أَن يُقَال بِسُقُوط وصمة التَّدْلِيس والتسوية جَمِيعًا. فقد قَالَ فِيهِ أَبُو دَاوُد: من رِوَايَة مَحْمُود بن خَالِد، نَا الْوَلِيد، أَخْبرنِي حريز- ثمَّ أحَال أَبُو دَاوُد فِيمَا بعد عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ عَن مُحَمَّد بن مَيْمُون الْبَغْدَادِيّ، نَا الْوَلِيد بن مُسلم، ثَنَا حريز بن عُثْمَان- وَرَوَاهُ أَبُو الْمُغيرَة، عَن حريز، حَدَّثَني عبد الرَّحْمَن بن ميسرَة الْحَضْرَمِيّ، قَالَ: سَمِعت الْمِقْدَام... فَذكره، فَالْحَدِيث إِسْنَاده وَاحِد اخْتلف فِي بعض أَلْفَاظه وَفِي اختصاره وإكماله، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فبرواية مَحْمُود عَن الْوَلِيد- وَكَذَلِكَ رِوَايَة مُحَمَّد بن عبد الله الْبَغْدَادِيّ عَنهُ- يَزُول التَّدْلِيس، وبرواية أبي الْمُغيرَة عَن حريز تَزُول التَّسْوِيَة.
قلت: وَكَذَلِكَ رِوَايَة هِشَام بن عمار عَن الْوَلِيد الْمُتَقَدّمَة عَن ابْن مَاجَه مِمَّا يزِيل التَّدْلِيس، وَلم يجب الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين- رَحِمَهُ اللَّهُ- إِلَّا عَن الْوَجْه الثَّانِي من اعْتِرَاض ابْن الْقطَّان، وأمَّا الْوَجْه الأوَّل: فَالْجَوَاب عَنهُ أنَّ عبد الرَّحْمَن بن ميسرَة لَيْسَ بِمَجْهُول؛ بل هُوَ مَعْرُوف ثِقَة، ذكره أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي ثقاته وَقَوله: إنَّه لَا يعرف رَوَى عَنهُ إِلَّا حريز لَيْسَ كَذَلِك؛ فقد رَوَى عَنهُ ثَوْر بن يزِيد، ذكره الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي تهذيبه فقد ارْتَفَعت عَنهُ جَهَالَة عينه وحاله، فَإِذا الحَدِيث حسن.
لَا جرم أَن الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين بن الصّلاح قَالَ فِي كَلَامه عَلَى الْمُهَذّب: إنَّه حَدِيث حسن وَتَبعهُ عَلَى ذَلِكَ النَّوَوِيّ فِي شرح المهذَّب.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي الْخُلَاصَة: رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح، لَكِن وَقع لَهما- رَحْمَة الله عَلَيْهِمَا- سَهْو فِي هَذَا الحَدِيث؛ فعزياه إِلَى سنَن النَّسَائِيّ وَلَيْسَ هُوَ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَتنبه لذَلِك واحفظه؛ فإنِّي مَا جزمت بذلك إلاَّ بعد تتبع الْأُصُول، وَلم يعزه أَيْضا أحد من أَصْحَاب الْأَطْرَاف إِلَيْهِ.
والمقدام: بِالْمِيم فِي آخِره، وإنَّما قيدته؛ لِئَلَّا يتصحف عَلَى من لَا أنس لَهُ بِهَذَا الْفَنّ بالمقداد- بِالدَّال فِي آخِره.
وكَرِب: بِفَتْح الْكَاف وَكسر الرَّاء، وَيجوز صرفه وَترك صرفه، وَجْهَان لأهل الْعَرَبيَّة، وَفِيه وَجه ثَالِث، أَن الْبَاء مَضْمُومَة بكلّ حَال، وياء معدي سَاكِنة بِكُل حَال.
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، عَن الرّبيع بنت معوذ رَضي اللهُ عَنهُا: «أنَّ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ وَأدْخل أصبعيه فِي حجري أُذُنَيْهِ».
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه بِهَذَا اللَّفْظ، وَالتِّرْمِذِيّ وَلَفظه: «مسح رَأسه مَا أقبل وَمَا أدبر وصدغيه وَأُذُنَيْهِ مرّة وَاحِدَة» وَالْبَيْهَقِيّ وَلَفظه: «أنَّ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فَأدْخل أصبعيه فِي أُذُنَيْهِ» وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك وَلَفظه: «أنَّ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مسح بأذنيه ظاهرهما وباطنهما».
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ الْحَاكِم: لم يحْتَجَّا- يَعْنِي: البُخَارِيّ وَمُسلمًا- بِابْن عقيل وَهُوَ مُسْتَقِيم الحَدِيث مقدم فِي الشّرف. وَقد تقدم قَرِيبا كَلَام الْأَئِمَّة فِي ابْن عقيل هَذَا وعقدنا لَهُ فصلا فِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ.
وَقَالَ ابْن الْقطَّان: إِسْنَاده صَحِيح إِلَى ابْن عقيل.
الطَّرِيق الثَّالِث: عَن أنس رَضي اللهُ عَنهُ: «أنَّ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فَمسح بَاطِن أُذُنَيْهِ وظاهرهما».
رَوَاهُ الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك من حَدِيث زَائِدَة، عَن سُفْيَان بن سعيد، عَن حميد الطَّوِيل، عَن أنس بِهِ. قَالَ: وَكَانَ ابْن مَسْعُود يَأْمر بذلك.
قَالَ الْحَاكِم: وزائدة بن قدامَة ثِقَة مَأْمُون، قد أسْندهُ عَن الثَّوْريّ. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن صاعد، عَن بنْدَار، عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، نَا حميد، عَن أنس «أنَّه كَانَ يتَوَضَّأ، فَمسح أُذُنَيْهِ ظاهرهما وباطنهما ثمَّ قَالَ: رَأَيْت النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل ذَلِكَ» قَالَ ابْن صاعد: هَكَذَا يَقُول الثَّقَفِيّ، وَغَيره يرويهِ عَن أنس عَن ابْن مَسْعُود من فعله.
ثمَّ خرجه من طَرِيق هشيم عَن حميد الطَّوِيل قَالَ: «رَأَيْت أنس بن مَالك يتَوَضَّأ فَمسح أُذُنَيْهِ ظاهرهما وباطنهما، ثمَّ قَالَ: إِن ابْن مَسْعُود كَانَ يَأْمر بالأذنين».
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من فعل أنس من طَرِيقين، وَلم يذكر رِوَايَة الرّفْع، وَهِي صَحِيحَة.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي الإِمام: رجال رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ كلهم ثِقَات، وَبُنْدَار فَمن فَوْقه من رجال الصَّحِيحَيْنِ قَالَ: وَكَأن الْحَاكِم لم يعلله بِرِوَايَة من وَقفه. وَرِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- تؤيّدها.
الطَّرِيق الرَّابِع: عَن إِسْرَائِيل عَن عَامر بن شَقِيق، عَن شَقِيق بن سَلمَة قَالَ: «رَأَيْت عُثْمَان رَضي اللهُ عَنهُ تَوَضَّأ فَمسح رَأسه وَأُذُنَيْهِ ظاهرهما وباطنهما، وَقَالَ: إِن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم صنع كَمَا صنعت» رَوَاهُ الدَّارمِيّ فِي مُسْنده بِهَذَا اللَّفْظ، وَأحمد وَالْحَاكِم وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَسبق بلفظهم فِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ.
الطَّرِيق الْخَامِس: عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده «أنَّ رجلا أَتَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: كَيفَ الطّهُور؟ فَدَعَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَاء فَتَوَضَّأ فَأدْخل أصبعيه السبابتين فِي أُذُنَيْهِ، فَمسح بإبهاميه ظَاهر أُذُنَيْهِ وبالسبابتين باطنهما».
رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ، وَبَقِي من طرق هَذَا الحَدِيث طَريقَة صَحِيحَة، سنذكرها بعد هَذَا الحَدِيث حَيْثُ ذكرهَا المُصَنّف- إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

.الحديث الخَامِس وَالْأَرْبَعُونَ:

عَن عبد الله بن زيد فِي صفة وضوء رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم «أنَّه تَوَضَّأ، فَمسح أُذُنَيْهِ بِمَاء غير الَّذِي مسح بِهِ الرَّأْس».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح.
رَوَاهُ الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك عَن أبي الْوَلِيد الْفَقِيه، ثَنَا الْحسن بن سُفْيَان، ثَنَا حَرْمَلَة بن يَحْيَى، ثَنَا ابْن وهب، عَن عَمْرو بن الْحَارِث، عَن حبَان بن وَاسع، أنَّ اباه حَدثهُ، أنَّه سمع عبد الله- رَضي اللهُ عَنهُ- يَقُول: «إنَّ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مسح أُذُنَيْهِ بِغَيْر المَاء الَّذِي مسح بِهِ رَأسه».
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا صَحِيح مثل الَّذِي قبله. وَكَانَ ذكر قبله حَدِيثا من حَدِيث ابْن وهب بِمثلِهِ، وَقَالَ فِيهِ: إنَّه صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ إِن سلم من مُحَمَّد بن أَحْمد بن أبي عبيد الله، وَقد احتجا جَمِيعًا بِجَمِيعِ رُوَاته.
وَرَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا فِي كِتَابه عُلُوم الحَدِيث عَن أبي عَلّي الْحُسَيْن بن عَلّي الْحَافِظ، ثَنَا أَبُو الطَّاهِر مُحَمَّد بن أَحْمد الْمدنِي، نَا حَرْمَلَة... فَذكره كَمَا تقدم إِلَّا أنَّ لَفظه: «رَأَيْت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ وَأخذ مَاء لأذنيه خلاف الَّذِي مسح بِهِ رَأسه» ثمَّ قَالَ الْحَاكِم: هَذِه سنة غَرِيبَة تفرد بهَا أهل مصر وَلم يشركهم فِيهَا أحد.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه عَن شَيْخه الْحَاكِم، عَن أبي الْحسن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَبدُوس، عَن الدَّارمِيّ، عَن الْهَيْثَم بن خَارِجَة، عَن عبد الله بن وهب قَالَ: أَخْبرنِي عَمْرو بن الْحَارِث، عَن حبَان بن وَاسع الْأنْصَارِيّ أنَّ أَبَاهُ حَدثهُ أنَّه سمع عبد الله بن زيد يذكر: «أنَّه رَأَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ؛ فَأخذ لأذنيه مَاء خلاف الَّذِي أَخذ لرأسه» ثمَّ قَالَ: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح.
قَالَ: وَكَذَلِكَ يرْوَى عَن عبد الْعَزِيز بن عمرَان بن مِقْلَاص وحرملة بن يَحْيَى، عَن ابْن وهب.
وَذكر الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي الإِمام أنَّه رَآهُ فِي رِوَايَة ابْن الْمُقْرِئ، عَن حَرْمَلَة، عَن ابْن وهب بِهَذَا الإِسناد، وَفِيه: «وَمسح رَأسه بِمَاء غير فضل يَدَيْهِ» لم يذكر الْأُذُنَيْنِ.
قلت: وَكَذَا رَأَيْته فِي صَحِيح ابْن حبَان فَقَالَ: أخبرنَا ابْن سلم، عَن حَرْمَلَة بِهِ وَهَذَا حَدِيث آخر لَا يقْدَح فِي صِحَة الأول فقد رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي خلافياته عَن الْحَاكِم وَأبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، عَن أبي عَلّي الْحُسَيْن بن عَلّي الْحَافِظ، عَن مُحَمَّد بن أَحْمد بن أبي عبيد الله عَن عبد الْعَزِيز وحرملة، ثمَّ ذكره كَمَا سَاقه فِي سنَنه ثمَّ سَاقه عَن الْحَاكِم بالطريقة الْمُتَقَدّمَة الَّتِي نقلناها عَن الْمُسْتَدْرك ثمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي السَّادِس عشر من الأمالي الْقَدِيمَة من حَدِيث الْهَيْثَم بن خَارِجَة كَمَا ذَكرْنَاهُ، فَثَبت بذلك صِحَة طَرِيقه إِلَى عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ.
تَنْبِيهَانِ:
أَحدهمَا: قَالَ الْحَافِظ عبد الْحق فِي الْأَحْكَام: وَقد ورد أَيْضا الْأَمر بتجديد المَاء للأذنين من حَدِيث نمران بن جَارِيَة، عَن أَبِيه، عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ إِسْنَاد ضَعِيف.
وَاعْترض عَلَيْهِ ابْن الْقطَّان فَقَالَ: هَذَا الَّذِي قَالَه لَا يُوجد أصلا. قَالَ: وَلم يعزه إِلَى مَوضِع فنتحاكم إِلَيْهِ، وَأَحَادِيث نمران بن جَارِيَة، عَن أَبِيه جَارِيَة بن ظفر محصورة مَعْرُوفَة يَرْوِيهَا عَنهُ ابْن قُرَّان- يَعْنِي: بِضَم الْقَاف، وَتَشْديد الرَّاء الْمُهْملَة، وَآخره نون وَهُوَ ضَعِيف، وَهِي أَرْبَعَة أَو نَحْوهَا، وَقد ذكر مِنْهَا حَدِيث «الْقَضَاء للَّذي يَلِيهِ معاقد القُمُط» وَحَدِيث «العَبْد الَّذِي قطع يَد رجل، ثمَّ شج آخر» وَأرَاهُ اخْتَلَط عَلَيْهِ هَذَا الَّذِي أنكرناه عَلَيْهِ، بِمَا رَوَى عَنهُ دهثم بن قرَان، عَن أَبِيه، عَن جَارِيَة بن ظفر، أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «خُذ للرأس مَاء جَدِيدا» وَهُوَ حَدِيث مَعْرُوف من جملَة مَا رَوَى عَنهُ، ذكره الْبَزَّار، وأمَّا الْأَمر بتجديد المَاء للأذنين فَلَا وجود لَهُ فِي علمي؛ فابحث عَنهُ. انْتَهَى مَا ذكره ابْن الْقطَّان وَحَدِيث عبد الله بن زيد الَّذِي قدمْنَاهُ بأسانيده، لَا شكَّ فِي صِحَّته واتصاله وَهُوَ مغنٍ عَنهُ.
الثَّانِي: قَالَ الشَّيْخ زكي الدَّين فِي كَلَامه عَلَى أَحَادِيث الْمُهَذّب بعد أَن أخرج حَدِيث عبد الله بن زيد الْمُتَقَدّم وَنقل عَن الْبَيْهَقِيّ تَصْحِيحه: وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الطَّهَارَة، عَن ابْن خشرم عَن ابْن وهب، وَقَالَ: حسن صَحِيح.
قلت: ذَاك حَدِيث آخر فِيهِ أنَّه أَخذ لرأسه مَاء جَدِيدا، وَالَّذِي أوردهُ عَن الْبَيْهَقِيّ إنَّما هُوَ فِي أَخذ المَاء للأذن، فَكيف يحسن ذَلِكَ مِنْهُ؟! وَهَذَا لفظ التِّرْمِذِيّ: ثَنَا عَلّي بن خشرم، نَا عبد الله بن وهب، نَا عَمْرو بن الْحَارِث، عَن حبَان بن وَاسع، عَن أَبِيه، عَن عبد الله بن زيد «أنَّه رَأَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ وأنَّه مسح رَأسه بِمَاء غير فضل يَدَيْهِ» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. قَالَ ذَلِكَ بعد أَن بوب: بَاب مَا جَاءَ أنَّه يَأْخُذ لرأسه مَاء جَدِيدا، فَتنبه لذَلِك.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم.
{رَبنَا آتنا من لَدُنْك رَحْمَة وهيئ لنا من أمرنَا رشدا}.

.الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعُونَ:

رُوِيَ «أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أمسك سبابتيه وإبهاميه عَن الرَّأْس لمسح الْأُذُنَيْنِ، فَمسح بسبابتيه باطنهما وبإبهاميه ظاهرهما».
هَذَا الحَدِيث هَكَذَا ذكره الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي الْمُهَذّب وَلَفظه «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مسح بِرَأْسِهِ وَأمْسك بمسبحتيه لأذنيه».
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين ابْن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى الْمُهَذّب: إِن هَذَا الحَدِيث لَا يُعرف وَلَا يثبت. قَالَ: وتوهم أَبُو بكر الْحَازِمِي- من حفاظ الْعَصْر- فِيمَا خرجه من أَحَادِيث الْمُهَذّب أَن مَعْنَاهُ مَوْجُود فِي حَدِيث الرّبيع بنت معوذ الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْهَا قَالَت: «رَأَيْت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فَمسح مقدم رَأسه ومؤخره وصدغيه، ثمَّ أَدخل أصبعيه السبابتين، فَمسح أُذُنَيْهِ ظاهرهما وباطنهما».
قَالَ: وَهَذَا وهم من الْحَازِمِي؛ فَإِنَّهُ لَا دلَالَة فِي هَذَا عَلَى مَا أوردهُ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق من أَنه مسح الْأُذُنَيْنِ بِغَيْر المَاء الَّذِي مسح بِهِ رَأسه قَالَ: وَهَاهُنَا نُكْتَة خفيت عَلَى أهل الْعِنَايَة بالمهذب، وَهِي أَن مُصَنفه رَجَعَ عَن الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث وأسقطه من الْمُهَذّب فَلم يفد ذَلِك بعد انتشار الْكتاب. قَالَ: وَوجدت بِخَط بعض تلامذته فِي هَذِه الْمَسْأَلَة من تَعْلِيقه عَلَى الْحَاشِيَة عِنْد استدلاله بِهَذَا الحَدِيث قَالَ الشَّيْخ: لَيْسَ لَهُ أصل فِي السّنَن، فَيجب أَن تضربوا عَلَيْهِ فِي الْمُهَذّب فَإِنِّي صنفته من عشر سِنِين، وَمَا عَرفته. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين: وَبَلغنِي أَن هَذَا الحَدِيث مَضْرُوب عَلَيْهِ فِي أصل المُصَنّف الَّذِي هُوَ بِخَطِّهِ.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب: هَذَا الحَدِيث مَوْجُود فِي بعض نسخ الْمُهَذّب الْمَشْهُورَة وَلَيْسَ مَوْجُودا فِي بعض النّسخ الْمُعْتَمدَة. قَالَ: وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف أَو بَاطِل لَا يعرف. وَجزم فِي الْخُلَاصَة بضعفه.
قلت: ورد من حَدِيث ابْن عَبَّاس من طرق عَنهُ مَا ظَاهرهَا لما رده هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة، رَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه عَن عَلّي بن أَحْمد بن عَبْدَانِ الْأَهْوَازِي، أَنا أَحْمد بن عبيد الصفار، نَا إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق، ثَنَا عَلّي بن الْمَدِينِيّ، نَا عبد الله بن إِدْرِيس، نَا مُحَمَّد بن عجلَان، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء بن يسَار، عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهما «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فغرف غرفَة؛ فَمَضْمض واستنشق...» وَذكر الحَدِيث وَقَالَ: «ثمَّ أَخذ شَيْئا من مَاء فَمسح بِهِ رَأسه، وَقَالَ: بالوسطيين من أَصَابِعه فِي بَاطِن أُذُنَيْهِ والإبهامين من وَرَاء أُذُنَيْهِ».
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قَالَ أَصْحَابنَا: فَكَأَنَّهُ كَانَ يعْزل من كل يَد أصبعين؛ فَإِذا فرغ من مسح الرَّأْس مسح بهما أُذُنَيْهِ قَالَ: وَقد رُوِيَ فِي هَذَا الحَدِيث «مسح أُذُنَيْهِ داخلهما بالسبابتين وَخَالف بإبهاميه فَمسح باطنهما وظاهرهما».
قلت: وَهَذِه الزِّيَادَة رَوَاهَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة فِي مُصَنفه وَمن جِهَته أخرجه أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه فَإِنَّهُ أخرجه عَن أَحْمد بن عَلّي بن الْمثنى، نَا أَبُو بكر بن أبي شيبَة، نَا ابْن إِدْرِيس، عَن ابْن عجلَان، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء بن يسَار، عَن ابْن عَبَّاس «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فغرف غرفَة فَغسل وَجهه، ثمَّ غرف غرفَة فَغسل يَده الْيُمْنَى ثمَّ غرف غرفَة فَغسل يَده الْيُسْرَى ثمَّ غرف غرفَة فَمسح بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ داخلهما بالسبابتين، وَخَالف بإبهاميه إِلَى ظَاهر أُذُنَيْهِ فَمسح ظاهرهما وباطنهما، ثمَّ غرف غرفَة فَغسل رجله الْيُمْنَى، ثمَّ غرف غرفَة فَغسل رجله الْيُسْرَى».
وَرَوَاهُ ابْن مَنْدَه الْحَافِظ أَيْضا من حَدِيث ابْن إِدْرِيس أَيْضا عَن مُحَمَّد بن عجلَان، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فَمسح رَأسه وَأُذُنَيْهِ...» فَقَالَ: «بالوسطى من أَصَابِعه فأبطن بأذنيه». وَقَالَ: «بالإبهامين من وَرَاء أُذُنَيْهِ».
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من الطَّرِيق الْمَذْكُورَة، وَلَفظه: «ثمَّ مسح رَأسه وَأُذُنَيْهِ باطنهما بالسبابتين وظاهرهما بإبهاميه».
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي الإِمام: ابْن عجلَان أخرج لَهُ مُسلم، وَبَاقِي إِسْنَاده لَا يسْأَل عَنهُ. وَقد أخرجه ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه من الطَّرِيق الْمَذْكُورَة، وَلَفظه عَن ابْن عَبَّاس «رَأَيْت النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ...» فَذكر الحَدِيث وَفِيه «وغرف غرفَة فَمسح رَأسه وباطن أُذُنَيْهِ وظاهرهما، وَأدْخل أصبعيه فيهمَا».
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين: قَالَ ابْن مَنْدَه: لَا يعرف مسح الْأُذُنَيْنِ من وَجه يثبت إِلَّا من هَذِه الطَّرِيق.
قلت: فَهَذِهِ الطّرق الصَّحِيحَة ظَاهِرَة فِيمَا قصدناه، وَقَالَ ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب عقب كَلَام ابْن الصّلاح وَالنَّوَوِيّ: وَأَنا أَقُول الْخَبَر إِن لم يكن بِهَذَا اللَّفْظ مَذْكُورا فِي كتب الحَدِيث فَفِيهَا مَا ينطبق ظَاهره عَلَى مَعْنَاهُ. ثمَّ سَاق حَدِيث الْمِقْدَام بن معدي كرب وَهُوَ الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ الْمُتَقَدّم، وَقد قدمْنَاهُ أَيْضا فِي الحَدِيث الَّذِي قبله أَنه صَحَّ عَنهُ «أَنه أَخذ لأذنيه مَاء جَدِيدا».

.الحديث السَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ:

رُوِيَ أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «مسح الرَّقَبَة أَمَان من الغل».
هَذَا الحَدِيث غَرِيب جدًّا لَا أعلم من خرجه بعد الْبَحْث عَنهُ، وَأوردهُ المُصَنّف تبعا للغزالي فِي وسيطه فَإِنَّهُ كَذَلِك أوردهُ، وَالْغَزالِيّ تبع فِي إِيرَاده القَاضِي حُسَيْنًا، فَإِنَّهُ كَذَا أوردهُ بعد أَن قَالَ: إِن مسح الْعُنُق لم يرد فِيهِ سنة. وَكَذَا قَالَ الفوراني من أَصْحَابنَا: إِنَّه لم يرد فِيهِ خبر بعد أَن قَالَ: إِنَّه يسْتَحبّ بِمَاء جَدِيد.
وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ حَكَى عَن شَيْخه أَنه كَانَ يَحْكِي وَجْهَيْن فِي أَنه سنة أَو أدب، وَأَنه كَانَ يروي أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «مسح الرَّقَبَة أَمَان من الغل» لكنه كَانَ يَقُول: لم ترتض أَئِمَّة الحَدِيث إِسْنَاده، وَإِن سَبَب التَّرَدُّد هَذَا. قَالَ الإِمَام: لست أرَى لهَذَا التَّرَدُّد حَاصِلا وَلم يجر مثله فِي غير هَذَا- يَعْنِي: لم يجر للأصحاب تردد فِي حكم مَعَ تَضْعِيف الحَدِيث الَّذِي يدل عَلَيْهِ- فَكَذَا يَنْبَغِي أَن يكون هَذَا. وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: لم ترد فِيهِ سنة ثَابِتَة.
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين ابْن الصّلاح فِي كَلَامه عَلَى الْوَسِيط: هَذَا الحَدِيث هُوَ غير مَعْرُوف عِنْد أهل الحَدِيث عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ من قَول بعض السّلف.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب: هَذَا حَدِيث مَوْضُوع لَيْسَ من كَلَام رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ فِي كَلَامه عَلَى الْوَسِيط: هَذَا حَدِيث بَاطِل مَوْضُوع، إِنَّمَا هُوَ من كَلَام بعض السّلف. قَالَ: وَلم يَصح عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مسح الرَّقَبَة شَيْء، وَلَيْسَ هُوَ سنة؛ بل هُوَ بِدعَة، وَلم يذكرهُ الشَّافِعِي وَلَا جُمْهُور الْأَصْحَاب، وَإِنَّمَا قَالَه ابْن الْقَاص وَطَائِفَة يسيرَة، وَهُوَ غلط لقَوْله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «فَمن زَاد عَلَى هَذَا فقد أَسَاءَ وظلم».
قَالَ ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب: الْبَغَوِيّ من أَئِمَّة الحَدِيث، وَقد قَالَ باستحبابه وَلَا مَأْخَذ لاستحبابه إِلَّا خبر أَو أثر؛ لِأَن هَذَا لَا مجَال للْقِيَاس فِيهِ، وَإِن كَانَ مَا أوردهُ الْغَزالِيّ من الْخَبَر مَوْضُوع، فَهُوَ أثر عَن بعض السّلف كَمَا قَالَ ابْن الصّلاح، وَهَذَا الحَدِيث وَصفه المتقدمون بإنهم ارتضوا إِسْنَاده دون الْوَضع. قَالَ: وَالْأَشْبَه عِنْدِي إِن لم يكن سنة فَهُوَ مُسْتَحبّ، وَصَاحب التَّتِمَّة والتَّهْذِيب عَلَّلَاهُ بتطويل الْغرَّة. قَالَ: فيقوي الْخَبَر الْمَذْكُور؛ إِذْ الْحِلْية الْمَطْلُوبَة وَالْغسْل لَا يَجْتَمِعَانِ فِي غسل وَاحِد فِي الْقيمَة.

.الحديث الثَّامِن وَالْأَرْبَعُونَ:

عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهما أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «من تَوَضَّأ وَمسح عُنُقه وُقِي الغل يَوْم الْقِيَامَة».
هَذَا الحَدِيث أَيْضا غَرِيب، وَهُوَ مثل الَّذِي قبله، وَعَزاهُ الرَّوْيَانِيّ- من أَصْحَابنَا- إِلَى تصنيف أَحْمد بن فَارس، فَقَالَ: رَأَيْت فِي تصنيف أَحْمد بن فَارس بِإِسْنَادِهِ عَن فليح بن سُلَيْمَان، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «من تَوَضَّأ وَمسح بيدَيْهِ عَلَى عُنُقه وقِي الغل يَوْم الْقِيَامَة». قَالَ الرَّوْيَانِيّ: وَهَذَا صَحِيح- إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قلت: وفليح هَذَا أخرج لَهُ الشَّيْخَانِ، وَتكلم فِيهِ النَّسَائِيّ وَغَيره، وليت الرَّوْيَانِيّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- ذكر لنا بَاقِي إِسْنَاده لنَنْظُر فِي حَاله.
وَرَوَاهُ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام فِي كِتَابه الطّهُور من كَلَام مُوسَى بن طَلْحَة فَقَالَ: وَأما مسح الْقَفَا فَإِن عَلّي بن ثَابت وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي حدثانا عَن المَسْعُودِيّ، عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن، عَن مُوسَى بن طَلْحَة قَالَ: «من مسح قَفاهُ مَعَ رَأسه وقِي الغل يَوْم الْقِيَامَة».
قَالَ: وثنا الْحجَّاج عَن المَسْعُودِيّ عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن أَنه قَالَ مثل ذَلِك، قَالَ حجاج: وَلَا أحفظ عَنهُ مُوسَى بن طَلْحَة.
قلت: وَالظَّاهِر أَن هَذَا لَا يَقُوله إِلَّا عَن تَوْقِيف، وروينا فِي مُسْند الإِمَام أَحْمد وسنَن أبي دَاوُد وجَامع التِّرْمِذِيّ عَن حَدِيث طَلْحَة بن مصرف، عَن أَبِيه، عَن جده «أَنه رَأَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يمسح رَأسه حَتَّى بلغ القذال وَمَا يَلِيهِ من مقدم الْعُنُق».
وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف، فِي إِسْنَاده: لَيْث بن أبي سليم، وَقد صرح الْبَيْهَقِيّ بِضعْف هَذَا الحَدِيث، وَنقل النَّوَوِيّ الِاتِّفَاق عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي فِي آخر الْبَاب فِي أثْنَاء الخاتمة الأولَى فِي الطَّرِيق الثَّالِث من حَدِيث عَلّي رفع مسح الْعُنُق إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسَنَد ضَعِيف.

.الحديث التَّاسِع وَالْأَرْبَعُونَ:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ للقيط بن صبرَة: إِذا تَوَضَّأت، فخلل الْأَصَابِع».
هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا فِي هَذَا الْبَاب، وَهُوَ الحَدِيث التَّاسِع والْعشْرُونَ مِنْهُ.

.الحديث الخَمْسُونَ:

قَالَ الإِمَام الرَّافِعِيّ: الأحب فِي كَيْفيَّة تَخْلِيل أَصَابِع الرجلَيْن أَن يخلل بخنصر الْيَد الْيُسْرَى من أَسْفَل الْأَصَابِع، مبتدئًا بخنصر أَصَابِع الرجل الْيُمْنَى، مختتمًا بخنصر الْيُسْرَى، ورد الْخَبَر بذلك عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم.
هَذَا كَلَام الرَّافِعِيّ وَهَذِه الْكَيْفِيَّة لَا أعلم من رَوَاهُ فِي حَدِيث وَلَا أثر، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ قَالَ فِي نهايته: صَحَّ فِي السّنة من كَيْفيَّة التَّخْلِيل مَا سنصفه؛ فليقع التَّخْلِيل من أَسْفَل الْأَصَابِع والبداية بالخنصر من الْيَد، وَلم يثبت عِنْدهم فِي تعْيين إِحْدَى الْيَدَيْنِ شَيْء. انْتَهَى.
وَالْمَعْرُوف عَنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ أَحَادِيث لَيْسَ فِي وَاحِد مِنْهَا هَذِه الْكَيْفِيَّة.
أَحدهَا: عَن الْمُسْتَوْرد بن شَدَّاد رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا تَوَضَّأ يدلك أَصَابِع رجلَيْهِ بِخِنْصرِهِ».
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن لَهِيعَة، عَن يزِيد بن عَمْرو الْمعَافِرِي، عَن أبي عبد الرَّحْمَن الحبلي عَنهُ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ كَذَلِك إِسْنَادًا ومتنًا، وَكَذَلِكَ أَيْضا ابْن مَاجَه فِي سنَنه وَفِي رِوَايَة لَهُ «يخلل أَصَابِع رجلَيْهِ بِخِنْصرِهِ». وَأخرجه أَحْمد بِهَذَا اللَّفْظ، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا الحَدِيث غَرِيب لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث ابْن لَهِيعَة.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه: أَنا أَبُو حَازِم عمر بن أَحْمد الْحَافِظ أَنا أَبُو أَحْمد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الْحَافِظ، أَنا أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن إِدْرِيس الْحَنْظَلِي بِالريِّ، نَا أَحْمد- يَعْنِي: ابْن عبد الرَّحْمَن بن وهب- قَالَ: سَمِعت عمي يَقُول: سَمِعت مَالِكًا سُئِلَ عَن تَخْلِيل أَصَابِع الرجلَيْن فِي الْوضُوء، فَقَالَ: لَيْسَ ذَلِك عَلَى النَّاس. فتركته حَتَّى خف النَّاس، وَقلت: يَا أَبَا عبد الله سَمِعتك تُفْتِي فِي مَسْأَلَة فِي تَخْلِيل أَصَابِع الرجلَيْن زعمت أَن لَيْسَ ذَلِك عَلَى النَّاس، وَعِنْدنَا فِي ذَلِك سنة! فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ فَقلت: حَدَّثَنَا اللَّيْث بن سعد وَابْن لَهِيعَة وَعَمْرو بن الْحَارِث عَن يزِيد بن عَمْرو الْمعَافِرِي، عَن أبي عبد الرَّحْمَن الحبلي، عَن الْمُسْتَوْرد بن شَدَّاد الْقرشِي قَالَ: «رَأَيْت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يدلك بِخِنْصرِهِ مَا بَين أَصَابِع رجلَيْهِ». فَقَالَ: إِن هَذَا الحَدِيث حسن، وَمَا سَمِعت بِهِ قطّ إِلَّا السَّاعَة. ثمَّ سمعته سُئِلَ بعد ذَلِك فَأمر بتخليل الْأَصَابِع. قَالَ عمي: مَا أقل من يتَوَضَّأ إِلَّا ويخطئه الْخط الَّذِي تَحت الْإِبْهَام فِي الرجل، فَإِن النَّاس يثنون إبهامهم عِنْد الْوضُوء، فَمن تفقد ذَلِك فقد سلم.
قلت: فَالْحَدِيث حسن صَحِيح، حَيْثُ لم ينْفَرد ابْن لَهِيعَة بِهِ، وحاول ابْن الْقطَّان تَصْحِيحه، فَوقف عَن ذَلِك لفصل أشكل عَلَيْهِ وَهُوَ سَماع ابْن أبي حَاتِم من أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن وهب؛ فَإِنَّهُ أشكل عَلَيْهِ هَل سمع أَو رَوَى عَنهُ إجَازَة، فَإِن ابْن الْقطَّان ذكره من طَرِيق أبي دَاوُد، نَا قُتَيْبَة، عَن ابْن لَهِيعَة- كَمَا تقدم- وَضَعفه من رِوَايَة ابْن لَهِيعَة، ثمَّ قَالَ: فَأَما الْإِسْنَاد الصَّحِيح، فَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: أَنا أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن ابْن أخي ابْن وهب... فَذكر نَحْو مَا ذَكرْنَاهُ. ثمَّ قَالَ: أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن قد وَثَّقَهُ أهل زَمَانه، وَإِنَّمَا يجب أَن يتفقد من أَمر هَذَا الحَدِيث قَول أبي مُحَمَّد بن أبي حَاتِم: أَنا أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن فَإِنِّي أَظُنهُ- يَعْنِي: بِالْإِجَازَةِ- فَإِنَّهُ لما ذكره فِي بَابه قَالَ: إِن أَبَا زرْعَة أدْركهُ وَلم يكْتب عَنهُ، وَأَن أَبَاهُ قَالَ: أَدْرَكته وكتبت عَنهُ. فَظَاهر هَذَا أَنه لم يسمع مِنْهُ، فَإِنَّهُ لم يقل: كتبت عَنهُ مَعَ أبي- كَمَا هِيَ عَادَته.
وَقد استغنينا عَن هَذَا التفقد الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن الْقطَّان بِرِوَايَة الْبَيْهَقِيّ الْمُتَقَدّمَة حَيْثُ قَالَ: حَدثنِي أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن وهب.
وَكَذَا أَيْضا رَوَاهُ عَن ابْن أخي ابْن وهب أَبُو بشر أَحْمد بن مُحَمَّد بن حَمَّاد الدولابي، حدث بِهِ الدَّارَقُطْنِيّ فِي غرائب مَالك عَن أبي جَعْفَر الأسواني عَن الدولابي، نَا أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن وهب، ثَنَا عمي... فَذكر مَعْنَى الْخَبَر والقصة عَن ابْن لَهِيعَة وَاللَّيْث بن سعد، لم يذكر عَمْرو بن الْحَارِث، فَهَذَا أَبُو مُحَمَّد بن أبي حَاتِم وَأَبُو بشر الدولابي كل مِنْهُمَا يَقُول: حَدَّثَنَا أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن.
نبَّه عَلَى ذَلِك شَيخنَا أَبُو الْفَتْح الْيَعْمرِي- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي شرح التِّرْمِذِيّ وَأَخذه من شَيْخه تَقِيّ الدَّين ابْن دَقِيق الْعِيد فَإِنَّهُ ذكره كَذَلِك فِي كتاب الإِمام.
الحديث الثَّانِي:
عَن عُثْمَان رَضي اللهُ عَنهُ «أَنه خلل أَصَابِع قَدَمَيْهِ ثَلَاثًا وَقَالَ: رَأَيْت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل كَمَا فعلت».
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه بِإِسْنَاد جيدٍ، وَقد تقدم فِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ من هَذَا الْبَاب من رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة فِي حَدِيث عُثْمَان تَخْلِيل الرجلَيْن.
الحديث الثَّالِث:
عَن الرّبيع بنت معوذ رَضي اللهُ عَنه قَالَت: «كَانَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يأتينا ويغشانا فَإِذا حضرت الصَّلَاة وَضعنَا لَهُ إِنَاء، حزرناه يَأْخُذ مدًّا أَو مدًّا وَنصفا، فَيغسل كفيه ثَلَاثًا، ويتمضمض ثَلَاثًا، ويستنشق ثَلَاثًا، وَيغسل وَجهه ثَلَاثًا ثمَّ يغسل يَدَيْهِ ثَلَاثًا وَيمْسَح رَأسه مرّة، وَيغسل أُذُنَيْهِ ظاهرهما وباطنهما وغضونهما، وَيغسل رجلَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا يخلل بَين أَصَابِعه».
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي أَوسط معاجمه ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن النُّعْمَان بن سَالم إِلَّا لَيْث بن أبي سليم، وَلَا عَن لَيْث إِلَّا يزِيد بن إِبْرَاهِيم التسترِي، وَلَا عَن يزِيد إِلَّا الْحجَّاج بن الْمنْهَال الْأنمَاطِي، تفرد بِهِ ابْنه.
الحديث الرَّابِع:
عَن عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «كَانَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ ويخلل بَين أَصَابِعه ويدلك عَقِبَيْهِ وَيَقُول: خللوا أصابعكم لَا يخلل الله بَينهَا بالنَّار ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار».
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَفِي إِسْنَاده عمر بن قيس، قَالَ البُخَارِيّ:
مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف.
الحديث الخَامِس:
عَن عبد الْجَبَّار بن وَائِل، عَن أَبِيه «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ واستنثر وخلل أَصَابِعه بأصابعه».
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه عَن مُحَمَّد بن يَحْيَى بن مَنْدَه الْأَصْبَهَانِيّ، ثَنَا أَبُو كريب، ثَنَا مُعَاوِيَة بن هِشَام، عَن شَيبَان، عَن جَابر، عَن عبد الْجَبَّار بِهِ.
فصل: وَقع فِي الحَدِيث الأول من هَذِه الْأَحَادِيث ذكر ابْن لَهِيعَة فلنذكر مقالات أهل الْفَنّ فِيهِ مَجْمُوعَة، هَذَا ليحال مَا يَقع بعده عَلَيْهِ فَنَقُول: هُوَ عبد الله بن لَهِيعَة بن عقبَة أَبُو عبد الرَّحْمَن الْحَضْرَمِيّ- وَيُقَال: الغافقي- قَاضِي مصر وعالمها، قَالَ يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان: قَالَ لي بشر بن السّري: لَو رَأَيْت ابْن لَهِيعَة لم تحمل عَنهُ حرفا. وَكَانَ يَحْيَى بن سعيد لَا يرَاهُ شَيْئا. وَقَالَ يَحْيَى بن معِين: أنكر أهل مصر احتراق كتبه وَالسَّمَاع مِنْهُ وَاحِد: الْقَدِيم والْحَدِيث، هُوَ ضَعِيف. قَالَ الفلاس: احترقت كتبه، وَمن كتب عَنهُ قبل ذَلِك كَابْن الْمُبَارك والمقرئ أصح مِمَّن كتب بعد احتراقها، وَهُوَ ضَعِيف الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: سَماع الْأَوَائِل والْأَوَاخِر مِنْهُ سَوَاء إِلَّا ابْن الْمُبَارك وَابْن وهب، كَانَا يتبعان أُصُوله وَلَيْسَ مِمَّن يحْتَج بِهِ. وَقَالَ ابْن بكير: احْتَرَقَ منزل ابْن لَهِيعَة وَكتبه سنة سبعين وَمِائَة. وَقَالَ البُخَارِيّ نَحوه، وَقَالَ السَّعْدِيّ: لَا يَنْبَغِي أَن يحْتَج بروايته وَلَا يعْتد بهَا. وَقَالَ النَّسَائِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ ضَعِيفا، وَعِنْده حَدِيث كثير، وَمن سمع مِنْهُ فِي أول أمره أحسن حَالا مِمَّن سمع مِنْهُ بِآخِرهِ. وَأما أهل مصر فَيذكرُونَ أَنه لم يخْتَلط وَلم يزل أول أمره وَآخره وَاحِدًا، وَإِنَّمَا كَانَ يقْرَأ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ من حَدِيثه فيسكت عَلَيْهِ فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ: وَمَا ذَنبي إِنَّمَا يجيئوني بِكِتَاب يقرءونه ويقومون، وَلَو سَأَلُونِي لأخبرتهم أَنه لَيْسَ من حَدِيثي. وَقَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان: سبرت أخباره فرأيته يُدَلس عَن أَقوام ضعفاء عَلَى أَقوام ثِقَات قد رَآهُمْ، ثمَّ كَانَ لَا يُبَالِي مَا دفع إِلَيْهِ قَرَأَهُ سَوَاء كَانَ من حَدِيثه أَو لم يكن من حَدِيثه، فَوَجَبَ التنكب عَن رِوَايَة الْمُتَقَدِّمين عَنهُ قبل احتراق كتبه، لما فِيهَا من الْأَخْبَار المدلسة عَن المتروكين، وَوَجَب ترك الِاحْتِجَاج بِرِوَايَة الْمُتَأَخِّرين بعد احتراق كتبه؛ لما فِيهَا مِمَّا لَيْسَ من حَدِيثه.
وَقَالَ ابْن حزم فِي محلاه: هُوَ سَاقِط. وَقَالَ مرّة: لَا شَيْء. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: أجمع أَصْحَاب الحَدِيث عَلَى ضعفه وَترك الِاحْتِجَاج بِمَا ينْفَرد بِهِ. وَوَقع ذكره فِي صَحِيح مُسلم فِي الْمُتَابَعَة مَقْرُونا بِعَمْرو بن الْحَارِث، وَذكره البُخَارِيّ فِي صَحِيحه وَلم يسمه، فَقَالَ مرّة: عَن حَيْوَة بن شُرَيْح وَفُلَان، وَمرَّة عَن عَمْرو بن الْحَارِث وَرجل آخر وَقَالَ ابْن وهب: كَانَ صَادِقا وَقَالَ ابْن عدي: حدث عَنهُ الثِّقَات:
الثَّوْريّ وَشعْبَة وَمَالك وَعَمْرو بن الْحَارِث وَاللَّيْث بن سعد قَالَ: وَأَحَادِيثه حسان، وَمَا قد ضعفه السّلف، وَهُوَ حسن الحَدِيث يكْتب حَدِيثه، وَقد حدث عَنهُ الثِّقَات كَمَا مر، وَحَدِيثه حسن كَأَنَّهُ يستأن عَمَّن رَوَى عَنهُ، وَهُوَ مِمَّن يكْتب حَدِيثه. قَالَ السُّهيْلي: وَكَانَ مَالك يحسن القَوْل فِيهِ، وَيُقَال: إِنَّه الَّذِي رَوَى عَنهُ حَدِيث العربان فِي الْمُوَطَّأ عَن الثِّقَة عِنْده عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: أنكر ابْن أبي مَرْيَم احتراق كتبه، وَقَالَ: لم يَحْتَرِق لَهُ وَلَا كتاب، إِنَّمَا أَرَادوا أَن يرفقوا عَلَيْهِ أَمِير مصر فَأرْسل إِلَيْهِ خَمْسمِائَة دِينَار. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَسمعت أَحْمد يَقُول: من كَانَ مثل ابْن لَهِيعَة بِمصْر فِي كَثْرَة حَدِيثه وَضَبطه وإتقانه؟! وَحدث عَنهُ أَحْمد بِحَدِيث كثير. وَرَوَى الْفضل بن زِيَاد عَن أَحْمد قَالَ: من سمع مِنْهُ قَدِيما فسماعه صَحِيح. وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: عِنْد ابْن لَهِيعَة الْأُصُول وَعِنْدنَا الْفُرُوع. وَقَالَ: حججْت حجًّا لألقى ابْن لَهِيعَة. وَقَالَ روح بن صَلَاح: لَقِي ابْن لَهِيعَة اثْنَيْنِ وَسبعين تابعيًّا.
قلت: فتحصلنا فِي أمره عَلَى ثَلَاثَة مَذَاهِب: الْقبُول، وَالرَّدّ، وَالتَّفْصِيل بَين أول أمره وَآخره.